فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآية رقم (82):

قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (82)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

.قال البقاعي:

ولما بان بهذا مالهم ولكل من شاركهم في هذا الوصف عطف عليه ما لمن ادّعوا أنهم يخلفونهم في النار ولكل من شاركهم في وصفهم الذي استحقوا به ذلك فقال: {والذين آمنوا} أي أقروا بالوحدانية بألسنتهم {وعملوا الصالحات} بيانًا لأن قلوبهم مطمئنة بذلك {أولئك} العالو المراتب الشريفو المناقب، ولم يأت بالفاء دلالة على أن سبب سعادتهم إنما هو الرحمة {أصحاب الجنة} لا غيرهم {وهم} أي خاصة {فيها خالدون}. اهـ.

.قال الفخر:

اعلم أنه سبحانه وتعالى ما ذكر في القرآن آية في الوعيد إلا وذكر بجنبها آية في الوعد، وذلك لفوائد: أحدها: ليظهر بذلك عدله سبحانه، لأنه لما حكم بالعذاب الدائم على المصرين على الكفر وجب أن يحكم بالنعيم الدائم على المصرين على الإيمان، وثانيها: أن المؤمن لابد وأن يعتدل خوفه ورجاؤه على ما قال عليه الصلاة والسلام: «لو وزن خوف المؤمن ورجاؤه لاعتدلا»، وذلك الاعتدال لا يحصل إلا بهذا الطريق، وثالثها: أنه يظهر بوعده كمال رحمته وبوعيده كمال حكمته فيصير ذلك سببًا للعرفان. اهـ.

.قال أبو حيان:

{والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم خالدون}: لما ذكر أهل النار، وما أعد لهم من الهلاك: أتبع ذلك بذكر أهل الإيمان، وما أعد لهم في الخلود في الجنان.
والمراد بالذين آمنوا: أمّة محمد صلى الله عليه وسلم، ومؤمنو الأمم قبله، قاله ابن عباس وغيره، وهو ظاهر اللفظ، وقال ابن زيد: هو خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم وأمّته، وقلّ ما ذكر في القرآن آية في الوعيد، إلا وذكرت آية في الوعد.
وفائدة ذلك ظهور عدله تعالى، واعتدال رجاء المؤمن وخوفه، وكمال رحمته بوعده وحكمته بوعيده.
وقد تضمنت هذه الآيات الكريمة استبعاد طمع المؤمنين في إيمان من سبق من آبائه التشريف بسماع كلام الله، ثم مقابلة ذلك بعظيم التحريف، هذا على علم منهم بقبيح ما ارتكبوه.
وهؤلاء المطموع في إيمانهم هم أبناء أولئك المحرفين، فهم على طريقة آبائهم في الكفر، ثم قد انطووا من حيث السريرة على مداجاة المؤمنين، بحيث إذا لقوهم أفهموهم أنهم مؤمنون، وإذا خلا بعضهم إلى بعض، أنكروا عليهم ما يتكلمون به مع المؤمنين من إخبار بشيء مما في كتبهم، وذلك مخافة أن يحتج المؤمنون عليهم بما في كتابهم، ثم أنكر تعالى عليهم ذلك بأنهم قد علموا أن الله يعلم سرّهم ونجواهم، فلا يناسب ذلك إلا الانقياد إلى كتاب الله، والإخبار بما فيه، واتباع ما تضمنه من الأمر، باتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم، والإيمان بما يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل، ولكنهم كفروا عنادًا وجحدوا بها، واستيقنتها أنفسهم ظلمًا وعلوًا.
ثم لما ذكر حال هؤلاء الذين هم من أهل العلم، ولم ينتفعوا بعلمهم، ذكر أيضًا مقلدتهم وعوامّهم، وأنهم لا يعلمون من الكتاب إلا ألفاظًا مسموعة، وأن طريقهم في أصول دياناتهم إنما هو حسن ظنهم بعلمائهم المحرّفين المبدّلين.
ثم توعد الله تعالى بالهلاك والحسرة، من حرّف كلام الله وادّعى أنه من عند الله، لتحصيل غرض من الدنيا تافه نزر لا يبقي، فباع باقيًا بفان.
ثم كرّر الوعيد على ما فعلوه، ثم أخبر عنهم بما صدر عنهم من الكذب البحت، بأن لبثهم في النار أيامًا معدودة، وأن ذلك إخبار ليس صادرًا عن عهد اتخذوه عند الله، بل قول على الله بما لا علم لهم به، ثم ردّ عليهم دعواهم تلك بقوله: {بلى}، ثم قسم الناس إلى قسمين كافر، وهو صاحب النار، ومؤمن وهو صاحب الجنة، وأنهم اندرجوا تحت قسم الكافر، لأنهم كسبوا السيئات، وأحاطت بهم الخطيئات، وناهيك ما اقتص الله فيهم من أول السورة إلى هنا، وما يقص بعد ذلك مما ارتكبوه من الكفر والمخالفات. اهـ.

.قال الألوسي:

لما ذكر سبحانه أهل النار وما أعد لهم من الهلاك أتبع ذلك بذكر أهل الإيمان وما أعد لهم من الخلود في الجنان، وقد جرت عادته جل شأنه على أن يشفع وعده بوعيده مراعاة لما تقتضيه الحكمة في إرشاد العباد من الترغيب تارة والترهيب أخرى، وقيل: إن في الجمع تربية الوعيد بذكر ما فات أهله من الثواب، وتربية الوعد بذكر ما نجا منه أهله من العقاب، وعطف العمل على الإيمان بدل على خروجه عن مسماه إذ لا يعطف الجزء على الكل ولا يدل على عدم اشتراطه به حتى يدل على أن صاحب الكبيرة غير خارج عن الإيمان، وتكون الآية حجة على الوعيدية كما قاله المولى عصام فإن قلت: للمخالف أن يقول: العطف للتشريف لكون العمل أشق وأحمز من التصديق وأفضل الأعمال أحمزها، أجيب بأن الإيمان أشرف من العمل لكونه أساس جميع الحسنات إذ الأعمال ساقطة عن درجة الاعتبار عند عدمه ويخطر في البال إنه يمكن أن يكون لذكر العمل الصالح هنا مع الإيمان نكتة، وهو أن يكون الإيمان في مقابلة السيئة المفسرة بالكفر عند بعض والعمل الصالح في مقابلة الخطيئة المفسرة بما عداه والمراد من {الذين آمنوا} أمة محمد صلى الله عليه وسلم ومؤمنو الأمم قبلهم، قاله ابن عباس وغيره وهو الظاهر وقال ابن زيد: المراد بهم النبي صلى الله عليه وسلم وأمته خاصة وذكر الفاء فيما سبق وتركها هنا إما لأن الوعيد من الكريم مظنة الخلف دون الوعد فكان الأول حريًا بالتأكيد دون الثاني، وإما للإشارة إلى سبق الرحمة فإن النحاة قالوا: من دخل داري فأكرمه يقتضي إكرام كل داخل لكن على خطر أن لا يكرم وبدون الفاء يقتضي إكرامه ألبتة، وإما للإشارة إلى أن خلودهم في النار بسبب أفعالهم السيئة وعصيانهم وخلودهم في الجنة بمحض لطفه تعالى وكرمه، وإلا فالإيمان والعمل الصالح لا يفي بشكر ما حصل للعبد من النعم العاجلة وإلى كل ذهب بعض والقول بأن ترك الفاء هنا لمزيد الرغبة في ذكر ما لهم ليس بشيء. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

العمل الصالح خارج عن مسمى الإيمان لأنه تعالى قال: {والذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} فلو دل الإيمان على العمل الصالح لكان ذكر العمل الصالح بعد الإيمان تكرارًا أجاب القاضي بأن الإيمان وإن كان يدخل فيه جميع الأعمال الصالحة، إلا أن قوله: آمن لا يفيد إلا أنه فعل فعلًا واحدًا من أفعال الإيمان، فلهذا حسن أن يقول: {والذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات}.
والجواب: أن فعل الماضي يدل على حصول المصدر في زمان مضى والإيمان هو المصدر، فلو دل ذلك على جميع الأعمال الصالحة لكان قوله: آمن دليلًا على صدور كل تلك الأعمال منه، والله أعلم. اهـ.

.قال ابن عطية:

قوله تعالى: {والذين آمنوا} الآية.
يدل هذا التقسيم على أن قوله: {من كسب سيئة} الآية في الكفار لا في العصاة، ويدل على ذلك أيضًا قوله: {أحاطت} لأن العاصي مؤمن فلم تحط به خطيئته، ويدل على ذلك أيضًا أن الرد كان على كفار ادعوا أن النار لا تمسهم إلا أيامًا معدودة فهم المراد بالخلود، والله أعلم. اهـ.

.قال الفخر:

هذه الآية تدل على أن صاحب الكبيرة قد يدخل الجنة لأنا نتكلم فيمن أتى بالإيمان وبالأعمال الصالحة، ثم أتى بعد ذلك بالكبيرة ولم يتب عنها، فهذا الشخص قبل إتيانه بالكبيرة كان قد صدق عليه أنه آمن وعمل الصالحات في ذلك الوقت، ومن صدق عليه ذلك صدق عليه أنه آمن وعمل الصالحات وإذا صدق عليه ذلك وجب اندراجه تحت قوله: {أُوْلَئِكَ أصحاب الجنة هُمْ فِيهَا خالدون}، فإن قيل قوله تعالى: {وَعَمِلُواْ الصالحات} لا يصدق عليه إلا إذا أتى بجميع الصالحات ومن جملة الصالحات التوبة، فإذا لم يأت بها لم يكن آتيًا بالصالحات، فلا يندرج تحت الآية.
قلنا: قد بينا أنه قبل الإتيان بالكبيرة صدق عليه أنه آمن وعمل الصالحات، لأنه متى صدق المركب يجب صدق المفرد، بل إنه إذا أتى بالكبيرة لم يصدق عليه أنه آمن وعمل الصالحات في كل الأوقات، لكن قولنا: آمن وعمل الصالحات أعم من قولنا: إنه كذلك في كل الأوقات أو في بعض الأوقات، والمعتبر في الآية هو القدر المشترك، فثبت أنه مندرج تحت حكم الوعد.
بقي قولهم: إن الفاسق أحبط عقاب معصيته ثواب طاعته فيكون الترجيح لجانب الوعيد إلا أن الكلام عليه قد تقدم. اهـ.
قال الفخر:
احتج الجبائي بهذه الآية على أن من يدخل الجنة لا يدخلها تفضلًا، لأن قوله: {أُوْلَئِكَ أصحاب الجنة} للحصر، فدل على أنه ليس للجنة أصحاب إلا هؤلاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات، قلنا: لم لا يجوز أن يكون المراد أنهم هم الذين يستحقونها فمن أعطى الجنة تفضلًا لم يدخل تحت هذا الحكم، والله أعلم. اهـ.

.قال نظام الدين النيسابوري في الآيات السابقة:

{أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (76) أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (77) وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79) وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (80) بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81) وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (82)}.
التفسير:
لما ذكر الله سبحانه وتعالى قبائح أسلاف اليهود وسوء معاملتهم مع نبيهم، أردفها قبائح أخلافهم المعاصرين لرسول الله صلى الله عليه وسلم فكأنه قيل: إذا كان هذا أفعالهم فيما بينهم، فكيف تطمعون أيها النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون في أن يؤمنوا أي يحدثوا الإيمان لأجل دعوتكم ويستجيبوا لكم؟ كقوله: {فآمن له لوط} {وقد كان فريق منهم} طائفة من أسلافهم {يسمعون كلام الله} وهو ما يتلونه من التوراة {ثم يحرفونه} كما حرفوا صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وآية الرجم. وقيل: هم قوم من الذين حضروا الميقات، سمعوا كلام الله حين كلم موسى بالطور وما أمر به ونهى عنه ثم قالوا: سمعنا الله يقول في آخره إن استطعتم أن تفعلوا هذه الأشياء فافعلوا وإن شئتم فلا تفعلوا فلا بأس {من بعد ما عقلوه} فهموه وضبطوه بعقولهم من غير ما شبهة {وهم يعلمون} أنهم مفترون كذابون. والمعنى إن كفر هؤلاء وحرفوا فلهم سابقة في ذلك كما تقول للرجل: كيف تطمع أن يفلح فلان وأستاذه فلان يأخذ عنه لا عن غيره؟ فهؤلاء المقلدة لا يقبلون إلا قول معلميهم وأحبارهم الذين تعمدوا التحريف عنادًا أو لضرب من الأغراض الدنيوية {وإذا لقوا} أي اليهود قال منافقوهم: آمنا بأنكم على الحق ونشهد أن صاحبكم صادق، ونجده بنعته وصفته في كتابنا.
{وإذا خلا بعضهم} الذين لم ينافقوا {إلى بعض} الذين نافقوا {قالوا} عاتبين عليهم {أتحدثونهم بما فتح الله عليكم} بما بين لكم في التوراة من نعته وصفته مأخوذ من قولهم قد فتح على فلان في علم كذا أي رزق ذلك وسهل له طلبه، أو قال المنافقون لعيرهم يرونهم التصلب في دينهم: أتحدثونهم إنكارًا عليهم أن يفتحوا عليهم شيئًا في كتابهم فينافقون المؤمنين وينافقون اليهود {ليحاجوكم به عند ربكم} ليحتجوا عليكم بما أنزل ربكم في كتابه. جعلوا محاجتهم به وقولهم هو في كتابكم هكذا محاجة عند الله. ألا تراك تقول: هو في كتاب الله كذا وهو عند الله كذا بمعنى واحد؟ وعن الحسن: ليحاجوكم في ربكم لأن المحاجة فيما ألزم تعالى من اتباع الرسل محاجة فيه أي دينه.
وقال الأصم: يحاجوكم يوم القيامة عند المساءلة فيكون زيادة في توبيخكم، فكان القوم يعتقدون أن ذلك مما يزيد في فضيحتهم في الآخرة. وقيل: ليحاجوكم به على وجه الديانة والنصيحة، لأن من يذكر الحجة على هذا الوجه قد يقول لصاحبه: أزحت علتك عند الله وأقمت عليك الحجة بيني وبين ربي، فإن قبلت أحسنت إلى نفسك، وإن جحدت كنت الخاسر الخائب. وقيل: لتصيروا محجوجين بتلك الدلائل في حكم الله كما يقال: فلان عندي عالم أي في اعتقادي وحكمي. وهذا عند الشافعي كذا، وعند أبي حنيفة كذا {أفلا تعقلون} أن ذلك لا يليق بما أنتم عليه فإنكم إذا حدثتموهم بالذي يحاجونكم به رجع وباله عليكم {أو لا يعلمون أن الله يعلم} جميع {ما يسرون وما يعلنون} ومن ذلك إسرارهم الكفر وإعلانهم الإيمان، خوّفهم الله تعالى بذلك لأنهم كانوا يعرفون أن الله يعلم السر والعلانية {ومنهم أميون} لا يحسنون الكتب فيطالعوا التوراة ويتحققوا ما فيها كأنه منسوب إلى الأم وهو أصل الشيء، فالأمي على أصل فطرته لم يكتسب علمًا وكتابة {لا يعلمون الكتاب} التوراة {إلا أماني} وأحدها أمنية على أفعولة من مني إذا قدر. تقول: منه تمنيت الشيء ومنيته غيري تمنية، لأن المتمني يقدر في نفسه ويجوّز ما يتمناه، وأماني اليهود هي أن الله يعفو عنهم ويرحمهم ولا يؤاخذهم بخطاياهم، وأن آباءهم الأنبياء يشفعون لهم، وما يمنيهم الأحبار من أن النار لا تمسهم إلا أيامًا معدودة. وقيل: الأماني الأكاذيب المختلفة التي سمعوها من علمائهم فقبلوها على التقليد. يقال: أهذا شيء رويته أم تمنيته أم اختلقته؟ وذلك أن المختلق يقدر أن كلمة كذا بعد كذا. وفي الصحاح أنه مقلوب المين وهو الكذب. وقيل: إلا ما يقرأون من قولهم: تمنيت الكتاب قرأته قال الشاعر يرثي عثمان:
تمنى كتاب الله أوّل ليلة ** وآخرها لا في حمام المقادر

والقارئ مقدر الكلمات كالمختلق، وعلى هذا يكون الاستثناء متصلًا كأنه قيل: لا يعلمون الكتاب إلا بقدر ما يتلى عليهم فيسمعونه، وبقدر ما يذكر لهم فيقبلونه. ثم إنهم لا يتمكنون من التدبر والتأمل، وعلى الأول يكون استثناء منقطعًا. ومن قرأ {أماني} بالتخفيف حذف المد كما يقال مفاتح {وإن هم إلا يظنون} كالمحقق لما تقدمه من قوله: {لا يعلمون الكتاب إلا أماني} ذكر الفرقة الضالة المضلة المحرفة، ثم الفرقة المنافقين منهم، ثم الفرقة المجادلة لأهل النفاق، ثم العوام المقلدة، ونبه على أنهم في الضلال سواء، لأن للعالم أن يعمل بعلمه وعلى العامي أن لا يرضى بالتقليد والظن إن كان متمكنًا من العلم ولاسيما في أصول الدين، الويل كلمة يقولها كل مكروب، وعن ابن عباس: أنه العذاب الأليم.
وعن الثوري: صديد أهل الجحيم. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «واد في جهنم يهوي فيه الكافر أربعين خريفًا قبل أن يبلغ قعره». وقال عطاء بن يسار: الويل واد في جهنم، لو أرسلت فيه الجبال لماعت من حره. ولا شبهة في دلالتها على نهاية الوعيد والتهديد {يكتبون الكتاب} المحرف {بأيديهم} تأكيد كما تقول للمنكر هذا ما كتبته بيمينك. حكى عنهم أمرين: كتبة الكتاب وإسناده إلى الله.
فالوعيد مرتب على كل منهما وعلى مجموعهما إلا أنه على الثاني أبلغ ولهذا جيء ب {ثم} وقوله: {ليشتروا به ثمنًا قليلًا} تنبيه على شقاوتهم، فإنهم استبدلوا النفع الحقير العاجل الزائل بالأجر العظيم الآجل الدائم {فويل لهم مما كتبت أيديهم} أي مما أسلفت من كتبها ما لم يكن يحل لهم {وويل لهم مما يكسبون} بذلك بعد من الرشا على التحريف وفي إعادة الويل في الكسب دليل على أن الوعيد كما يلحقهم بسبب الكتبة وإسنادها إلى الله، فكذلك يلحقهم بسبب أخذ المال عليه ليعلم أن أخذ المال على الباطل محرم وإن كان بالتراضي {وقالوا لن تمسنا النار} نوع آخر من قبائح أفعالهم وهو جزمهم بأن الله تعالى لا يعذبهم إلا أيامًا معدودة قليلة، وهذا الجزم مما لا سبيل إليه بالعقل ألبتة، ولا دليل له سمعيًا فلا يجزم به عاقل. والأيام المعدودة قالوا: أربعون يومًا هي أيام عبادة العجل. وعن مجاهد قالوا: مدة الدنيا سبعة آلاف سنة، وإنما نعذب مكان كل ألف سنة يومًا لأن يومًا عند الله ألف سنة. وأيام معدودة ومعدودات كلاهما فصيح مثل الأيام مضت ومضين. والعهد هاهنا يجري مجرى الوعد والخبر، لأن خبره سبحانه كالعهود المؤكدة منا بالقسم والنذر. و{أتخذتم} استفهام بطريق الإنكار، وإنه يدل على عدم الدليل السمعي.
{فلن يخلف الله عهده} لتنزهه سبحانه عن كل نقيصة وخلاف الخبر أنقص النقائص. فإن قيل: هب أن الخلف في الوعد لؤم ونقيصة، لكنه في الوعيد كرم ولطف. قلنا: الخلف من حيث هو كذب قبيح لا يجوّزه كامل، ولعل للكرم طريقًا آخر سوى هذا فتأمل. و{أم} إما معادلة بمعنى أي الأمرين كائن على سبيل التقدير لأن العلم واقع بكون أحدهما وهذا من الكامل المنصف نحو {وأنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين} [سبأ: 8]، ويجوز أن تكون منقطعة بمعنى بل أتقولون كأنه أعرض عن الاستفهام الأول واستأنف سؤالًا ثانيًا. فالاستفهام الأول لتقرير النفي، والاستفهام الثاني لتقرير الإثبات. وفي الآية تنبيه على أن القول بغير دليل باطل وأن كل ما جاز وجوده وعدمه عقلا لم يجز المصير إلى الإثبات أو إلى النفي إلا بدليل سمعي. ولا حجة لمنكري القياس وخبر الواحد فيه لأنه لما دل الدليل على وجوب العمل عند حصول الظن المستند إلى القياس أو إلى خبر الواحد، كان وجوب العمل معلومًا فكان القول به قولًا بالمعلوم {بلى} إثبات لما بعد حرف النفي وهو قوله: {لن تمسنا النار} أي بلى تمسكم أبدًا بدليل قوله تعالى: {هم فيها خالدون} عن ابن عباس: وجد أهل الكتاب ما بين طرفي جهنم مسيرة أربعين فقالوا: لن نعذب في النار إلا ما وجدنا في التوراة، وإذا كان يوم القيامة أقحموا في النار فساروا في العذاب حتى انتهوا إلى شفير سقر وفيها شجرة الزقوم إلى آخر يوم من الأيام المعدودة قال لهم خزنة أهل النار: يا أعداء الله، زعمتم أنكم لن تعذبوا في النار إلا أيامًا معدودة، فقد انقضى العدد وبقي الأبد.
قلت: وفي مثل حالهم ضلال الفلاسفة القائلين بأن الأرواح وإن صارت مكدرة بقبائح أفعال الأشباح، إلا أنها بعد المفارقة ورجوع العناصر إلى أصلها تصير إلى حظائر القدس، ولا يزاحمها شيء من قبائح الأعمال إلا أيامًا معدودة بقدر فطام الأرواح عن لبان التمتعات الحيوانية، ثم تتخلص من العذاب وترجع إلى حسن المآب. ومنهم من زعم أن استيفاء اللذات الحسية يقلل التعلقات الدنيوية ويسهل عروج الروح إلى عالمه العلوي، وكل هذا خيال فاسد ومتاع كاسد، وإنه قول من لم يجرب ولم يجد من نفسه أنها كيف تتدنس وتتكدر بالأخلاق الذميمة البهيمية والسبعية، ويكف تتصفى وتتطهر بالأخلاق الحميدة الروحانية الملكية، فغمر بصدإ مرآة القلب بحيث لا يبقى فيه شيء من الصفاء الفطري {كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون} [المطففين: 14] فلا يجلوها إلا مرور الدهور وكرور الأعصار. وقد ينضم الكفر إلى تلك الأخلاق فيبقى خالدًا مخلدًا في النار، في ويل طويل وزفير وعويل، نعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا. والسيئة أصلها سيوئة من ساءه يسوءه سوأ ومساءة، فقلبت الواو ياء وأدغمت، وهي من الصفات الغالبة.
وقوله: {سيئة} يتناول جميع المعاصي صغرت أو كبرت، فضم إليها شرط آخر وهو كون السيئة محيطة به ليختص بالكبيرة. ولفظ الإحاطة حقيقة في المجسمات إحاطة السور بالبلد والظرف بالمظروف، فنقل إلى الخطيئة وهي عرض لمعنيين من جهة أن المحيط يستر المحاط به. والكبيرة تستر الطاعات، ومن جهة أن الكبيرة تحبط الطاعات وتستولي عليها إحاطة العدو بالإنسان بحيث لا يتمكن الإنسان من الخلاص عنهم. والآية وإن وردت في اليهود فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وبمثلها تتمسك المعتزلة في إثبات الوعيد لأصحاب الكبائر إذا ماتوا قبل التوبة، وفسر غيرهم الخطيئة المحيطة بالكفر فيه تتحقق الإحاطة التامة. واعلم أن في المسألة خلافًا لأهل القبلة. منهم من قطع بوعيدهم إما مؤبدًا- وهو قول جمهور المعتزلة والخوارج- وإما منقطعًا- وهو قول بشر المريسي والخالدي ومنهم من قطع بأنه وعيد لهم وينسب إلى مقاتل بن سليمان المفسر.
والذي عليه أكثر الصحابة والتابعين وأهل السنة والإمامية، القطع بأنه سبحانه يعفو عن بعض العصاة، وأنه إذا عذب أحدهم فلا يعذبه أبدًا، لكنا نتوقف في حق البعض المعفو عنه والبعض المعذب على التعيين. أما المعتزلة فاستدلوا بعمومات وردت في وعيد الفساق كقوله: {ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارًا خالدًا فيها} [النساء: 14] وقوله: {وإن الفجار لفي جحيم} [الإنفطار: 14] وقوله: {إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلمًا إنما يأكلون في بطونهم نارًا} [النساء: 10] ومن الحديث: «من شرب الخمر في الدنيا ولم يتب منها لم يشربها في الآخرة ومن قتل نفسًا معاهدًا لم يرح رائحة الجنة، الذي يشرب في آنية الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم» وعن أبي سعيد الخدري قال صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده لا يبغضنا أهل البيت رجل إلا دخل النار» وإذا استحقوا النار ببغضهم فلأن يستحقوا النار بقتلهم أولى. وأجيب بالمنع من أن هذه الصيغ للعموم بدليل صحة إدخال الكل والبعض عليها نحو: كل من دخل داري فله كذا، أو بعض من دخل. ولا يلزم منه تكرير ولا تناقض، ولأن الأكثر قد يطلق عليه لفظ الكل، ولاحتمال المخصصات. القاطعون بنفي العقاب عن أهل الكباشر احتجوا بنحو قوله تعالى: {إن الخزي اليوم والسوء على الكافرين} [النحل: 27] {يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله} [الزمر: 53] {وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم} [الرعد: 6] {لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى} [الليل: 15، 16] وبالعمومات الواردة في الوعد مثل {والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك} [البقرة: 3] الآية. حكم بالفلاح على كل من آمن. وعورض بعمومات الوعيد. أما أصحابنا الذين قطعوا بالعفو في حق البعض والتوقف في البعض، فقد تمسكوا بنحو قوله عز من قائل: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} [النساء: 48] وبأن عمومات الوعد والوعيد لما تعارضتا فلابد من الترجيح لجانب الوعد بصرف التأويل إليه، لأن العفو عن الوعيد مستحسن في العرف، وإهمال الوعد باضد. وأيضًا القرآن مملوء من قوله: {عفوًا غفورًا} {رحيمًا} {كريمًا}. وكذا الأخبار في هذا المعنى تكاد تبلغ حد التواتر. وأيضًا إن صاحب الكبيرة أتى بما هو أفضل الخيرات وهو الإيمان، ولم يأت بما هو أقبح القبائح وهو الكفر، ولا يهدمه ما سوى الكفر من المعاصي، ولهذا قال يحيى بن معاذ الرازي: إلهي إذا كان توحيد ساعة يهدم كفر خمسين سنة، فتوحيد خمسين سنة كيف لا يهدم معصية ساعة؟ إلهي لما كان الكفر لا ينفع معه شيء من الطاعات، كان مقتضى العدل أن الإيمان لا يضر معه شيء من المعاصي، وإذا دلت الآيات على الوعد والوعيد فلابد من التوفيق بينهما.
فإما أن يصل العبد إلى دار الثواب ثم إلى دار العقاب وهو باطل بالإجماع، أو يصل إليه العقاب ثم ينقل إلى دار الثواب ويبقى هناك أبد الآباد وهو المطلوب. واعلم أن مذهب الأصحاب إلى الأدب أقرب من حيث إنهم يصفونه بصفات الجمال كالعفو والمغفرة، وبصفات الجلال كالقهر والانتقام، ولكن لا يوجبون عليه ثوابًا ولا عقابًا، لأنه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. ومن حيث إنهم لا يعينون البعض المستحق للثواب ولا البعض المستحق للعقاب من المسلمين، لأن فعله مبرأ عن التعلل بلواحق الغايات وسوابق البواعث. ومذهب المعتزلة إلى الاحتياط أقرب، فإن من خوّفك حتى تبلغ الأمن خير ممن أمنك حتى تبلغ الخوف. اهـ.